البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿يُوقِدُونَ﴾ بالياء، واختاره أبو عبيدة لقوله :﴿يَنفَعُ النَّاسَ﴾ وأيضاً فليس ههنا مخاطب. والباقون بالتاء على الخطاب، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان. الأول : أنه خطاب للمذكورين في قوله :﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِه ا أَوْلِيَآءَ﴾. (الرعد : ١٦) والثاني : أنه يجوز أن يكون خطاباً عاماً يراد به الكافة، كأنه قال : ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون.
البحث الثاني : الإيقاد على الشيء على قسمين : أحدهما : أن لا يكون ذلك الشيء في النار، / وهو كقوله تعالى) ﴿فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ﴾ (القصص : ٣٨) والثاني : أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار، فلهذا السبب قال ههنا :﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ﴾.
البحث الثالث : في قوله :﴿ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ﴾ قال أهل المعاني : الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص، والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، والمتاع كل ما يتمتع به وقوله :﴿زَبَدٌ مِّثْلُه ﴾ أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل.
ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَـاطِلَ ﴾ والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل. ثم قال :﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءًا وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ قال الفراء : الجفاء الرمي والاطراح يقال : جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال، والمعنى : أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة/ فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات، وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالاً، وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار.
أما قوله تعالى :﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه تم الكلام عند قوله :﴿كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ﴾ ثم استأنف الكلام بقوله :﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ﴾ ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى. الثاني : أنه متصل بما قبله والتقدير : كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلاً وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة، ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة، وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى، فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٢
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء فهي قوله :﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ﴾ والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى. قال ابن عباس : الجنة، وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة / الدائمة الخالية عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال. ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى، وهو قوله :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ (يونس : ٢٠٦) وأما أحوال الأشقياء، فهي قوله :﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَه ﴾ فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة.
فالنوع الأول ؛ قوله :﴿لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه افْتَدَوْا بِه ﴾ والافتداء جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر، ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره : لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والكناية في "به" عائدة إلى "ما" في قوله :﴿مَّا فِى الارْضِ﴾.
واعلم أن هذا المعنى حق، لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه، لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوباً بالذات.