والنوع الثاني : من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله :﴿ أولئك لَهُمْ سُواءُ الْحِسَابِ﴾ قال الزجاج : ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وأقول ههنا حالتان : فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية، وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة، ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد، ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة، ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثراً ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب، وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ (الزلزلة : ٧/ ٨).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٢
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى.
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم، فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب، والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى.
والنوع الثالث : قوله تعالى :﴿وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد / بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك قال :﴿مَّأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال :﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ ولا شك أن الأمر كذلك.
ثم قال تعالى :﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ا ﴾ فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة، أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك.
ثم قال :﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٢
٣٨
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا ؟
فيه قولان :
القول الأول : إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أنه يجوز أن يكون قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ صفة لأولي الألباب. والثاني : أن يكون ذلك صفة لقوله :﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ﴾ (الرعد : ١٩).
والقول الثاني : أن يكون قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ مبتدأ :﴿ أولئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ خبره كقوله :﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِا أولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ (الرعد : ٢٥) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء، وشرطها مشتمل على قيود، وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود. أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة :


الصفحة التالية
Icon