القيد الأول : قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ وفيه وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم :﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾. والثاني : أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين : أحدهما : الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير. والآخر : التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام، والحاصل أنه دخل تحت قوله :﴿يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ كل ما قام الدليل عليه. ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع. ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل، ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات، ويدخل فيه أداء الأمانات، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٨
القيد الثاني : قوله :﴿وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ﴾ وفيه أقوال :
القول الأول : وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد، فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد، وهذا مثل أن يقول : إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق.
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة. قال عليه السلام :"لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له" والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن.
والقول الثاني : أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه، فالحاصل : أن قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء. وقوله :﴿وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ﴾ إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات.
والقول الثالث : أن المراد بالوفاء بالعهد : عهد الربوبية والعبودية، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم عند ظهوره.
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع، قال عليه السلام :"من عاهد الله فغدر، كانت فيه خصلة من النفاق" وعنه عليه السلام :"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهداً ثم غدر، ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره، ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه" وقيل : كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول : وفاء بالعهد لا غدر. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء" قال من هذا ؟
قالوا : عمرو بن عيينة فرجع معاوية.
القيد الثالث :﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ﴾ وههنا سؤال : وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر. والثاني : أنه تأكيد.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٨
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في تفسيره وجوهاً : الأول : أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام :"ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول : أي رب قطعت، والأمانة تقول : أي رب تركت، والنعمة تقول : أي رب كفرت".
والقول الثاني : أن المراد صلة محمد صلى الله عليه وسلّم ومؤازرته ونصرته في الجهاد.


الصفحة التالية
Icon