ثم قال تعالى :﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ﴾ (الرعد : ٢١) وذلك في مقابلة قوله :﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ﴾ فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين، ووصل الأرحام، ووصل سائر من له حق، ثم قال :﴿وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ ﴾ وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد، ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الصفات قال :﴿ أولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ واللعنة من الله الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من عذاب ونقمة :﴿وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ﴾ لأن المراد جهنم، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٨
٤٧
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا، فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، ويوجد المؤمن مضيقاً عليه دون الكافر، فالدنيا دار امتحان. قال الواحدي : معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غير من غير زيادة ولا نقصان. وقال المفسرون : معنى (يقدر) ههنا يضيق، ومثله قوله تعالى :﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه ﴾ (الطلاق : ٧) أي ضيق، ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
وأما قوله :﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ فهو راجع إلى من بسط الله له زرقه، وبين تعالى أن ذلك لا يوجب
اعلم أن الكفار قالوا : يا محمد إن كنت رسولاً فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
فأجاب عن هذا السؤال بقوله :﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه : أحدها : كأنه تعالى يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، ولكن الإضلال والهداية من الله، فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة، وهدى أقواماً آخرين إليها، حتى عرفوا بها صدق محمد صلى الله عليه وسلّم في دعوى النبوة، وإذا كان كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات، وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل، فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ من كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية ﴿وَيَهْدِى ﴾ من كان على خلاف صفتكم. وثالثها : أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية فإنه لم يحصل الانتفاع بها ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات. ورابعها : قال أبو علي الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب :﴿وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ أي يهدي إلى جنته من تاب وآمن قال وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث أنه عقبه بقوله :﴿مَنْ أَنَابَ﴾ أي تاب / والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب، لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الذين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا. هذا تمام كلام أبي علي وقوله :(أناب) أي أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
اعلم أن قوله :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ بدل من قوله :﴿مَنْ أَنَابَ﴾ قال ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت.
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنفال : ٢) والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان ؟


الصفحة التالية
Icon