والوجه الثاني : ما روي أن علياً وابن عباس كانا يقرآن :﴿أَفَلَمْ يَا يْـاَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ فقيل لابن عباس أفلم ييأس فقال : أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس أنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرىء ييأس وهذا القول بعيد جداً لأنه يقتضي كون القرآن محلاً للتحريف والتصحيف وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب "الكشاف" : ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرية.
والقول الثاني : قال الزجاج : المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً. وتقريره أن العلم بأن الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب حسن المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله :﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ وكلمة "لو" تفيد انتقاء الشيء لانتفاء غيره. والمعنى : أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس، والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة / على مشيئة الإلجاء، وتارة يحملون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة، وفيهم من يجري الكلام على الظاهر، ويقول إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون شائياً لهداية جميع الناس.
والكلام في هذه المسألة قد سبق مراراً.
أما قوله تعالى :﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فيه قولان :
القول الأول : قيل : أراد به جميع الكفار لأن الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل، وقيل : أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعهود السابق هو ذلك الجمع المعين.
المسألة الثانية : في الآية وجهان. الأول : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريباً منهم، فيفزعون ويضطرون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
والقول الثاني : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم من العداوة والتكذيب قارعة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعه ذلك.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ والغرض منه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه. قال القاضي : وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق.
وجوابنا : أن الخلف غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.
اعلم أن القوم لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول صلى الله عليه وسلّم على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيراً له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كما أن قومك يستهزئون بك :﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي أطلب لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم.
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى، وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخاً لهم وتعجبياً من عقولهم فقال :﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ والمعنى : أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات وإذا كان كذلك كان عالماً بجميع أحوال النفوس، وقادراً على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات، وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي. وهذا هو المراد من قوله :﴿قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى :﴿قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ ﴾ (آل عمران : ١٨).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه :