الوجه الأول : التقدير :﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ كمن ليس بهذه الصفة ؟
وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ونظيره قوله تعالى :﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه ﴾ وما جاء جوابه لأن مضمر في قوله :﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه ﴾ (الزمر : ٢٢) فكذا ههنا، قال صاحب "الكشاف" : يجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، أو يعطف عليه قوله :﴿وَجَعَلُوا ﴾ والتقدير : أفمن هو بهذا الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء.
الوجه الثاني : وهو الذي ذكره السيد صاحب "حل العقد" فقال : نجعل الواو في قوله :﴿وَجَعَلُوا ﴾ واو الحال ونضمر للمبتدأ خبراً يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال، والتقدير :﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ موجود. والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله (لله) مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، وهذا كما تقول : جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي.
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال :﴿قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال : سمه إن شئت. يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل، فكأنه تعالى قال : سموهم بالآلهة على سبيل التهديد، والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج فقال :﴿أَمْ تُنَبِّـاُونَه بِمَا لا يَعْلَمُ فِى الارْضِ﴾ والمراد : أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعملمونه وهو لا يعلمه، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن شريك ألبته، لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها ﴿أَم بِظَـاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ﴾ يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له، وهو كقوله تعالى :﴿ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ (التوبة : ٣٠) ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه :﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ قال الواحدي : معنى (بل) ههنا كأنه يقول : دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم، فكأنه يقول : دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل. قال القاضي : لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله، بل لا بد وأن يكون إما شياطين وإما شياطين الجن.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه : الأول : أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الإنس / فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال، والثاني : أن يقال : القلوب لا يقدر عليها إلا الله، والثالث : أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل.
أما قوله :﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ﴾ فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿وَصُدُّوا ﴾ بضم الصاد وفي حم ﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ﴾ (النساء : ١٦٧) على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم، وعند أهل السنة أن الله صدهم. وللمعتزلة فيه وجهان : قيل الشيطان، وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال : فلان معجب وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله، أي أعرضوا وقيل : صرفوا غيرهم، وهو لازم ومتعد، وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (النساء : ١٦٧).