ثم قال :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ﴾ اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه : أولها : قوله :﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله. وثانيها : قوله :﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ﴾ بضم الصاد، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله. وثالثها : قوله :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ﴾ وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله. ورابعها : قوله تعالى :﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ ﴾ أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر، امتنع صدور الإيمان منه وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مراراً، قال القاضي :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله :﴿فَمَا لَه مِنْ هَادٍ﴾ منبيء بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا، وقيل : المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالاً، وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك، ثم قال والوجه الأول أقوى.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
واعلم أن الوجه ضعيف جداً لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجز ذكر ذهابهم إلى الجنة ألبتة فصرف الكلام على المذكور إلى غير المذكور بعيد. وأيضاً فهب أنا نساعد على أن الأمر كما ذكروه، إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع.
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عن لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما عذاب الدنيا / فبالقتل، والقتال، واللعن، والذم، والإهانة، وهل يدخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا ؟
اختلفوا فيه، قال بعضهم : إنها تدخل فيه، وقال بعضهم : إنها لا تكون عقاباً، لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها، ولو كان عقاباً لم يجب ذلك، فالمراد على هذا القول من الآية القتل، والسبيء، واغتنام الأموال، واللعن، وإنما قال :﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ ﴾ لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة، وإن شئت بسبب كثرة الأنواع، وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة، وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع، ثم بين بقوله :﴿وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾ أي أن أحداً لا يقيهم ما نزل الله من عذاب الله. قال الواحدي : أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله (واق) وكذلك في قوله :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ﴾ وكذلك في قوله :﴿وَالٍ﴾ وهو الوجه لأنك تقول في الوصل : هذا هاد ووال وواق، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد، ووال، وواق. وكان ابن كثير يقف بالياء في هادي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول : هذا داعي فيقفون بالياء.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة، أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ أقوال : الأول : قال سيبويه :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة. والثاني : قال الزجاج : مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث : مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار، كما تقول صفة زيد اسم. والرابع : الخبر هو قوله :﴿أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ﴾ لأنه الخارج عن العادة كأنه قال :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ ﴾ كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث : أولها : تجري من تحتها الأنهار. وثانيها : أن أكلها دائم. والمعنى : أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها. أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة. وثالثها : أن ظلها دائم أيضاً، والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى :﴿لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا﴾ (الإنسان : ١٣) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة، وعاقبة الكافرين النار. وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام.
واعلم أن قوله :﴿أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ﴾ فيه مسائل ثلاث :


الصفحة التالية
Icon