المسألة الثانية :﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ﴿وَيُثْبِتُ ﴾ ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت، وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت. ولأن التشديد للتكثير، وليس القصد بالمحو التكثير، فكذلك ما يكون في مقابلته، ومن شدد احتج بقوله :﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ (النساء : ٦٦) وقوله :﴿فَثَبِّتُوا ﴾ (الأنفال : ١٢).
المسألة الثالثة : المحو ذهاب أثر الكتابة، يقال : محاه يمحوه محواً إذا أذهب أثره، وقوله :﴿وَيُثْبِتُ ﴾ قال النحويون : أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني، وهو كقوله تعالى :﴿وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ﴾ (الأحزاب : ٣٥).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٢
المسألة الرابعة : في هذه الآية قولان :
القول الأول : إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا : إن الله يمحو من الرزق / ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر، وهو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والقول الثاني : أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض، وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه : الأول : المراد من المحو والإثبات : نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلاً عن الأول. الثاني : أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره، وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال : إنه تعالى وصف الكتاب بقوله :﴿لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ (الكهف : ٤٩) وقال أيضاً :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ (الزلزلة : ٧/ ٨).
أجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة، وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول : إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير، والكبيرة بالذنب الكيبر، وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين. أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير، وإن كان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا التقرير فقوله :﴿لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ (الكهف : ٤٩) يتناول المباحات أيضاً. الثالث : أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه، فإذا تاب عنه محى من ديوانه. الرابع :﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ وهو من جاء أجله. ويدع من لم يجيء أجله ويثبته. الخامس : أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت، وأثبت كتاب آخر للمستقبل. السادس : يمحو نور القمر، ويثبت نور الشمس. السابع : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. الثامن : أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة، وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى. التاسع : تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو، وما حصل وحضر فهو الإثبات. العاشر : يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحداً فهو المنفرد بالحكم كما يشاء، وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٢
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم.
فإن قال قائل : ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات ؟
قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.
المسألة الخامسة : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى، وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله :﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾.
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالاً.
المسألة السادسة : أما ﴿أُمُّ الْكِتَـابِ﴾ فالمراد أصل الكتاب، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى، فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب، وفيه قولان :