﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾ (مريم : ٧١) أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء : ١٠١) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال :"لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة : أليس الله يقول :﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ﴾ فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا"، ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً. القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى :﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ (الأنبياء : ٩٨) وقال :﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَا وَبِئْسَ الْوِرْدُ﴾ (هود : ٩٨) ويدل عليه قوله تعالى :﴿الْحُسْنَى ا أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال :"أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور، فقال عليه السلام : يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا"، وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلّم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر :"أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها". والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم :﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ﴾ (الأنبياء : ١٠٣) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه". وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار، والكفار يكونون في وسط / النار. وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما :"يردونها كأنها إهالة" وعن جابر بن عبد الله :"أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة". وثالثها : أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم، كما في حق إبراهيم عليه السلام. وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً. واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها. وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه. ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين. وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦٠
وبضدها تتبين الأشياء


الصفحة التالية
Icon