فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى :﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء : ١٠١) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله :﴿لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ﴾ (الأنبياء : ١٠٢) فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة ؟
قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ﴾ (إبراهيم : ٤٨) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها. أما قوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾ فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير، واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال : إن قوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾ يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً. "والجواب" أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله :﴿ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ﴾ قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله، قال القاضي : الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق / لا يكون متقياً، ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثياً فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبداً. قال ابن عباس : المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله، واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته، وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال : إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله :﴿ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا ﴾ فصارت هذه الآية التي توهموها دليلاً من أقوى الدلائل على فساد قولهم : قال القاضي : وتدل الآية أيضاً، على فساد قول من يقول : إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار، قلنا : هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة، ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعاً ولا عاصياً، فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦٠
﴿وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مراراً كثيرة في هذا الكتاب، أما قوله :﴿جِثِيًّا﴾ قال صاحب "الكشاف" قوله :﴿وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦٠
٥٦٠
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا : لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة، ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين، هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى :﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه ﴾ (الأحقاف : ١١) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون / بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم. بقي بحثان :
الأول : قوله :﴿بَيِّنَـاتٍ تَعْرِفُ﴾ يحتمل وجوهاً : أحدها : أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً. وثانيها : أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها. وثالثها : المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر :﴿أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٦٧).


الصفحة التالية
Icon