المسألة الثانية : اختلفوا في قوله :﴿لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى﴾ فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما، ثم ذكروا وجوهاً. أحدها : وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله : ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير. وثانيها : قال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وثالثها : قال الحسن لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. ورابعها : قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء. وخامسها : قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة : أنه لما سأله عن الإله وقال :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى ﴾ وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب، واعلم أن موسى عليه السلام / لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة. أولها : قوله تعالى :﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا﴾ وفيه أبحاث :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٦٢
البحث الأول : قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف ﴿مَهْدًا﴾ والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة : الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره : المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" :﴿الَّذِى جَعَلَ﴾ مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث : المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾. وثانيها : قوله تعالى :﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا﴾ قال صاحب "الكشاف" سلك من قوله :﴿مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ﴾ (المدثر : ٤٢) ﴿كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الشعراء : ٢٠٠) أي جعل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. وثالثها : قوله :﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٦٢


الصفحة التالية
Icon