السؤال الأول : كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام :﴿بَلْ أَلْقُوا ﴾ فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً. والجواب من وجوه : أحدها : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيماناً وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال. وثانيها : ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير :﴿أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ﴾ (الشعراء : ٤٣) إن كنتم محقين كما في قوله تعالى :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ (البقرة : ٢٣) أي إن كنتم قادرين. وثالثها : أنه لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً. وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه، ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا. ورابعها : أن لا يكون ذلك أمراً بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حساً لكي ينكشف الحق. وخامسها : أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله :﴿وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾ (طه : ٦١) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمراً لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهياً وآمراً بالفعل الواحد محال، فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٧٥
السؤال الثاني : لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس، فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز. والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام : لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز، ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سبباً لإزالة الشبهة، وأما على التقدير الأول فإنه يكون سبباً لوقوع الشبهة فكان ذلك أولى. أما قوله :﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿أَلْقُوا ا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ ميلاً من هذا الجانب وميلاً من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى / فخاف فلما قيل له :﴿وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ﴾ ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعاً فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئاً إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحراً لبقيت فخروا سجداً وقالوا :﴿قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ﴾ (الأعراف : ١٢١/ ١٢٢).
المسألة الثانية : اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام : كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل. وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل، وقال وهب : كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة : ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الاسكندرية. وقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك، واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٧٥


الصفحة التالية
Icon