المسألة الثانية : استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر قالوا : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم لقوله :﴿إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا﴾ وكلمة من في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، واعترض بعض المتكلمين من أصحابنا على هذا الكلام، فقال : لا نسلم أن صاحب الكبيرة مجرم والدليل عليه أنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنه قال في هذه الآية :﴿وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ﴾ وقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ (المطففين : ٢٩) وأيضاً فإنه قال :﴿فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ﴾ والمؤمن صاحب الكبيرة وإن عذب بالنار لا يكون بهذا الوصف، وفي الخبر الصحيح :"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان". واعلم أن هذه الاعتراضات ضعيفة، أما قوله : إن الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فهذا مسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط، قوله ثانياً : إنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقه : إن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، قلنا : لا نسلم فإن عذاب جهنم في غاية الشدة قال تعالى :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه ﴾ (آل عمران : ١٩٢) وأما الحديث فيقال :"القرآن متواتر فلا يعارضه خبر الواحد". ويمكن أن يقال : ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وللخصم أن يجيب فيقول ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات، وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات، فلا يجوز المصير إليها ههنا. فإن اعترض إنسان آخر، وقال : أجمعنا على أن هذه الآية مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ولكن عندنا العفو محبط للعقاب، وعندنا أن المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم، واعلم أن هذا الاعتراض أيضاً ضعيف أما شرط نفي التوبة فلا حاجة إليه لأنه قال :﴿مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا﴾
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٨٠
أي حال كونه مجرماً والتائب لا يصدق عليه أنه أتى ربه حال كونه مجرماً. وأما صاحب الصغيرة فلأنه لا يسمى مجرماً لأن المجرم اسم للذم فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة، بل الاعتراض الصحيح أن نقول : عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد وهو قوله تعالى :﴿وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ فَ أولئك لَهُمُ الدَّرَجَـاتُ الْعُلَى ﴾ وكلامنا فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر. فإن قيل : عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة، قلنا : لم لا يجوز أن يقال : ثواب الإيمان يدفع عقاب المعصية فإن قالوا : لو كان كذلك لوجب أن لا يجوز لعنه وإقامة الحد عليه. قلنا : أما اللعن الغير جائز عندنا، وأما إقامة الحد عليه فقد تكون على سبيل المحنة كما في حق التائب وقد تكون / على سبيل التنكيل. قالت المعتزلة قوله تعالى :﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّه ﴾ (المائدة : ٣٨) فالله تعالى نص على أنه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل، وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم، وإذا لم يبق ذلك لم يبق الثواب كما قلنا. فدلنا ذلك على أن عقاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة. هذا منتهى كلامهم في مسألة الوعيد قلنا حاصل الكلام يرجع إلى أن النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل صار معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب، فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس وذلك لأن المؤمن كان ينقسم إلى السارق وغير السارق، فالسارق ينقسم إلى المؤمن وإلى غير المؤمن فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص فإذا تعارضا تساقطا. ثم نقول : لا نسلم أن كلمة من في إفادة العموم قطعية بل ظنية ومسألتنا قطعية فلا يجوز التعويل على ما ذكرته، وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب المحصول في الأصول.
المسألة الثالثة : تمسكت المجسمة بقوله :﴿إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا﴾ فقالوا : الجسم إنما يأتي ربه لو كان الرب في المكان. وجوابه : أن الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتياناً إلى الله مجازاً كقول إبراهيم عليه السلام :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات : ٩٩).
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٨٠