المسألة الأولى : أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي، أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف، واحتجوا على قولهم بوجوه. أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر. والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف / بالترجيح تكليفاً بالمحال، والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع. والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث، وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق. وثانيها : قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثاً، وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق. وثالثها : قالوا : سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً وهو محال، وإن عادت إلى العبد فهو محال، لأن سؤاله لما كان سبباً لتوجيه العقاب عليه، لم يكن هذا نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرراً عائداً إليه، وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثاً وهو غير جائز على الحكيم، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم. والجواب عنها من وجهين : الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض. والثاني : وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى : لم كلفت عبادك، إلا أن قد بينا أنه سبحانه :﴿لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ فظهر بهذا أن قوله :﴿لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ كالأصل والقاعدة لقوله :﴿وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله :﴿وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ وإن كان متأكداً بقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : ٩٢) وبقوله :﴿وَقِفُوهُم إِنَّهُم﴾ (الصافات : ٢٤) إلا أنه يناقضه قوله :﴿فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ (الرحمن : ٣٩) والجواب : أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٣٤
المسألة الثانية : قالت المعتزلة فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما حقه الذم، كما يحمد بما حقه المدح. وثانيها : أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه. وثالثها : أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم. ورابعها : أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم. وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله :﴿رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (النساء : ١٦٥) وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل، وقال :﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ (طه : ١٣٤) ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى. وسادسها : قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى : ما حملك على معصيتي ؟
فيقول على مذهب الجبر : يا رب إنك خلقتني كافراً وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقاً، وقال الله تعالى :﴿هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ (المائدة : ١١٩) فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له، ومن يدعه يقول : هذا الكلام أو يحتج ؟
فقال ثمامة : أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده، وهذا نهاية الانقطاع. والجواب عن هذه الوجوه : أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه.
وأما قوله تعالى :﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةًا قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ ﴾ فاعلم أنه سبحانه كرر قوله :﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً ﴾ استعظاماً لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكاً فهاتوا برهانكم على ذلك. أما من جهة العقل، أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولاً وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانياً، أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثاً.