المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال : أحدها : وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها. وثانيها : وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتفعة فجعلت سبع سموات / وكذلك الأرضون. وثالثها : وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ (الطارق : ١١، ١٢) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك :﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ﴾ وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا. فإن قيل : هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا، قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال : ثوب أخلاق وبرمة أعشار. واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار. ورابعها : قول أبي مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله :﴿فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٢
الشورى : ١١) وكقوله :﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ﴾ (الأنبياء : ٥٦) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق. أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود. وخامسها : أن الليل سابق على النهار، لقوله تعالى :﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ (يس : ٣٧) وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر، فإن قيل : فأي الأقاويل أليق بالظاهر ؟
قلنا : الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان، والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني. وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً، ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج، ففتقهما لينزل المطر من السماء، ويظهر النبات على الأرض.
المسألة السادسة : دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة، لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك، والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة، ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد.
النوع الثاني من الدلائل : قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّا أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" قوله : وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ﴾ (النور : ٤٥) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ (الأنبياء : ٣٧) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من / في قوله عليه السلام :"ما أنا من دد ولا الدد مني" وقرىء حياً وهو المفعول الثاني.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٢
المسألة الثانية : لقائل أن يقول كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال :﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر : ٢٧) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام :﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى ﴾ (المائدة : ١١٠) وقال في حق آدم :﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ (آل عمران : ٥٩) والجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك.


الصفحة التالية
Icon