المسألة الثانية : أنه لا يجوز أن يقول :﴿وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولاً فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها والله أعلم.
المسألة الثالثة : الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم : الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك، وقال الأكثرون : بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه، وقال الكلبي : ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء، قلنا ؛ لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح، وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والإلتئام والنمو والذبول، فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر.
المسألة الرابعة : اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته أو موافقاً لجهته إما / بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكوكب ساكناً، أما الرأي الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل لأنه يوجب خرق الأفلاك وهو محال، وأما الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضاً يوجب الخرق وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم لأن الكواكب تتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك واقفاً فيه والفلك يتحرك فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك، واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" :﴿كُلٌّ﴾ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم في فلك يسبحون والله أعلم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٢
المسألة السادسة : احتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله :﴿يَسْبَحُونَ﴾ قال والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء، وبقوله تعالى :﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ﴾ (يوسف : ٤)، والجواب : إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت الجملة ما محلها قلت النصب على الحال من الشمس والقمر أو لا محل لها لاستئنافها، فإن قلت : لكل واحد من القمرين فلك على حدة فكيف قيل جميعهم يسبحون في فلك ؟
قلت : هذا كقولهم كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي كل واحد منهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٢
١٤٤
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استدل بالأشياء الستة التي شرحناها في الفصل المتقدم وكانت تلك الأشياء من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما نبه به على أن هذه الدنيا جعلها كذلك لا لتبقى وتدوم أو يبقى فيها من خلقت الدنيا له، بل خلقها سبحانه وتعالى للإبتلاء والامتحان، ولكي يتوصل بها إلى الآخرة التي هي دار الخلود.
فأما قوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ﴾ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : قال مقاتل : أنا أناساً كانوا يقولون إن محمداً صلى الله عليه وسلّم لا يموت فنزلت هذه الآية. وثانيها : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا أي قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت أفائن مت أنت أيبقى هؤلاء لا وفي معناه قول القائل :
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
وثالثها : يحتمل أنه لما ظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء جاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت.
أما قوله تعالى :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ ففيه أبحاث :