المسألة الرابعة : إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم، ويجوز أن يرجع إلى الموزونات.
أما قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ﴾ فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيىء، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء :﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ﴾ على كان التامة كقوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ﴿أَتَيْنَا بِهَا ﴾ وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب، وفي حرف أبي جئنا بها.
المسألة الثانية : لم أنث ضمير المثقال ؟
قلنا : لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه.
المسألة الثالثة : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان. واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة قوله :﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا ﴾ فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم، فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح. والجواب : الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق، ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلاً أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال، فالظلم على الله تعالى محال. وأيضاً فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية، فحينئذ يكون كونه إلهاً من الجائزات لا من الواجبات، وذلك يقدح في إلهيته.
المسألة الخامسة : إن قيل الحبة أعظم من الخردلة، فكيف قال حبة من خردل ؟
قلنا : الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار. والغرض المبالغة في أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله تعالى.
أما قوله تعالى :﴿وَكَفَى بِنَا حَـاسِبِينَ﴾ فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث / لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه، ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك فقال :
حاسبونا فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٠
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر ههنا منها قصصاً.
(القصة الأولى، قصة موسى عليه السلام)
ووجه الإتصال أنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يقول :﴿إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ ﴾ (الأنبياء : ٤٥) أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ﴾ واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال : أحدها : أنه هو التوراة، فكان فرقاناً إذ كان يفرق به بين الحق والباطل، وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع، وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله :﴿وَضِيَآءً﴾ فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان، وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين. والمعن أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى. القول الثاني : أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه : أحدها : عن ابن عباس رضي الله عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ (الأنفال : ٤١) يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة. / وثانيها : هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد. وثالثها : فلق البحر عن الضحاك. ورابعها : الخروج عن الشبهات، قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) أما قوله تعالى :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٠


الصفحة التالية
Icon