السؤال الخامس : على تقدير أن ثبت قطعاً أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد، فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون. الجواب : أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى :﴿فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَ ﴾ قال ولو كان الكل مصيباً لم يكن لتخصيص / سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة، وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله :﴿وَكُلا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال :﴿وَكُلا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ واعلم أن الإستدلالين ضعيفان. أما الأول : فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به، على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانامصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا. وأما الثاني : فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكماً وعلماً بما حكم به، بل يجوز أن يكون آتيناه حكماً وعلماً بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام، على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيباً في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣
السؤال السادس : لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها ؟
الجواب : قال الحسن البصري : هذه الآية محكمة، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة، واعلم أن كثيراً من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله : إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار، وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه. وإن كان ليلاً يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا ضمان عليه ليلاً كان أو نهاراً إذا لم يكن متعدياً بالإرسال، لقوله صلى الله عليه وسلّم :"جرج العجماء جبار" واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال :"كانت ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل" وهذا تمام القول في هذه الآية. ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين : الأول : قوله تعالى :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَا وَكُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذا التسبيح وجهان : أحدهما : أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوهاً. أحدها : قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه. وثانيها : قال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال. وثالثها : قال سليمان بن حيان : كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً. القول الثاني : وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه ﴾ (الإسراء : ٤٤) وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً، والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وأما المعتزلة فقالوا : لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه. والأول : محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة، وما لا يكون حياً / عالماً قادراً يستحيل منه الفعل. والثاني : أيضاً محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ ومثله قوله تعالى :﴿فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه ﴾ (سبإ : ١٠) معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه، أي سيرى وهو كقوله :﴿إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا﴾ (المزمل : ٧) أي تصرفاً ومذهباً. إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة، وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضاً ممنوع.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣


الصفحة التالية
Icon