﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ﴾ (الفتح : ٢) أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع : هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة، فلم لا يجوز أن تيقال إن تلك الزلة إنما حصلت، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الخصم الثاني، فإن/ لما قال :﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه ﴾ فحكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفاً للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآثات على هذا الوجه، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني : أنه أحوط والثالث : أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ﴾ (ص : ١٧) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا :﴿هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص : ٤) واستهزأوا به حيث قالوا :﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (ص : ١٦) فقال تعالى في أول الآية : اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه، أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً فاسداً والرابع : أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين، ولما كانا من الملائكة وما كان بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذباً، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين أحدهما : إسناد الكذب إلى الملائكة والثاني : أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى، فهذا ما عندنا في هذا الباب/ والله أعلم بأسرار كلامه، ونرجع الآن إلى تفسير الآيات. أما قوله :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
﴿وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ﴾ قال الواحدي : الخصم مصدر خصمته أخصمه خصماً، ثم يسمى به الإثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع، يقال هما خصم وهم خصم، كما يقال هما عدل وهم عدل، والمعنى ذوا خصم وذوو خصم، وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام، وقوله تعالى :﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ يقال تسورت السور تسوراً إذا علوته، ومعنى :﴿تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ أي أتوه من سوره وهو أعلاه، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها. وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه، وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب، كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه، وههنا مسألة من علم أصول الفقه، وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في/ أربعة مواضع أحدهما : قوله تعالى :﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ (ص : ٢١)، وثانيها : قوله :﴿إِذْ دَخَلُوا ﴾، وثالثها : قوله :﴿مِنْهُمْ﴾، ورابعها : قوله :﴿قَالُوا لا تَخَفْ ﴾ فهذه الألفاظ الأربعة لها صيغ الجمع، وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان، قالوا فهذه الآية تدل على أن أقل اسماً فإنه لا يثنى ولا يجمع، ثم قال تعالى :﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ﴾ والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه، فلما قال :﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه، قال الفراء : وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً، ثم قال تعالى :﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾ والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر، فلا جرم فزع منهم، ثم قال تعالى :﴿قَالُوا لا تَخَفْا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : خصمان خبر مبتدأ محذوف، أي نحن خصمان.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢