ثم قال تعالى :﴿وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ﴾ قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه، قالوا/ والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك/ ثم صعد إلى السماء قبل وجهه، فعلم داود أن الله ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة، والمشابهة علة لجواز المجاز، وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أما قوله :﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه ﴾ أي سأل الغفران من ربه، ثم ههنا وجهان إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه، حملنا هذا الاستغفار عليها، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه الأول : أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله، وإنه كان سلطاناً شديد القهر عظيم القوة، ثم أنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى الله، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله، فغفر الله له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر الثاني : لعله هم بإيذاء القوم، ثم قال : إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم الثالث : لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله، فغفر الله ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم الله هذه القصة بقوله :﴿وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ﴾ ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة، وتحمل أنوعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد، أما إذا كان المذكور السابق هو ازقادم على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به، قال مالك بن دينار ؛ إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة، ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا والله أعلم، بقي ههنا مباحب فالأول : قرىء فتناه وفتناه عى أن الألف ضمير الملكين الثاني : المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة التعجة والنعاج، وقيل أيضصاً إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاين وذلك غير جائز الثالث : قوله ؛ ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ يدل على حصول الركوع، وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوماً ثبت بالأخبار الرابع : أن مذهب الشافيع رضي الله عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة الخامس : استشهد أبو خنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
٣٩٦
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أنه تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض، وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة، لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين، راغباً في انتزاع أزواجهم منهم ثم يذكر عقيبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان الأول : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه، وذلك ءنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على الله مجال الثاني : إنا جعلناك مالكاً للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة، ومنه يقال خلفاء الله في أرضه، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله، فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم.