المسألة الثانية : إن حمل على القرب المكاني، فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة ؟
فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب، وعن الآخر في غاية البعد، مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي، أو نقول : إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود، وقوله تعالى :﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ يحتمل أن يكون نصباً على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكاناً غير بعيد، وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيداً بالنسبة إلى شيء، فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة، فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق ؟
يقال له المسجد الأقصى قريب، وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد ؟
يقل له هو بعيد. فقوله تعالى :﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي قربت قرباً حقيقياً لا نسبياً حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة، ويحتمل أن يكون نصباً على / الحال تقديره : قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد، فيحصل المعنيان جميعاً الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله :﴿أُزْلِفَتْ﴾ وقوله :﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ مع قوله :﴿أُزْلِفَتْ﴾ على التأنيث يحتمل وجوهاً : الأول : إذا قلنا إن ﴿غَيْرَ﴾ نصب على المصدر تقديره مكاناً غير. الثاني : التذكير فيه كما في قوله تعالى :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ (الأعراف : ٥٦) إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. الثالث : أن يقال ﴿غَيْرَ﴾ منصوب نصباً على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره : أزلفت الجنة إزلافاً غير بعيد، أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان، والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه، فقال : الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٨
١٤٨
ثم قال تعالى :﴿هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ قال الزمخشري : هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى :﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ بدل عن المتقين كأنه تعالى قال :(أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب) كما في قوله تعالى :﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ﴾ (الزخرف : ٣٣) غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال :﴿هَـاذَا﴾ إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله :﴿أُزْلِفَتْ﴾ (ق : ٣١) أي هذا الإزلاف ما وعدتم به، ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم.
ثم قال تعالى :﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ بدلاً عن الضمير في ﴿تُوعَدُونَ﴾، وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلاً عن الضمير، والأواب الرجاع، قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر، والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض. ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى الله بفكره، والحفيظ الذي يحفظ الله في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعاً به وموجداً منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء، والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ، وفيه وجوه أخر أدق، وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه، والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيراً للمتقي، لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره، والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير الله تعالى، والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٨
١٤٩


الصفحة التالية
Icon