وفي ﴿مِنَ﴾ وجوه. أحدها :/ وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال : يا من خشيء الرحمن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع. وثانيها :﴿مِنَ﴾ بدل عن كل في قوله تعالى :﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ (ق : ٣٢) من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمن بالغيب، ثالثها : في قوله تعالى :﴿أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ (ق : ٣٢) موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك، فقوله تعالى :﴿مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ﴾ بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري، وقال لا يجوز أن يكون بدلاً عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه، فتكون ﴿مِنَ﴾ موصوفاً بها ومن لا يوصف بها لا يقال : الرجل من جاءني جالسني، كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني، هذا تمام كلام الزمخشري، فإن قال قائل إذا كان ﴿مِنَ﴾ والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما ؟
نقول : الأمر معقول نبينه في ما، ومنه يتبين الأمر فيه فنقول : ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحاً تقول أولاًإنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك، فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث المعقول، وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفاً للغير يكون معناه شيء له كذا، فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة، والحقائق لا تقع صفات، وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٩
وفي الآية لطائف معنوية. الأول : الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ وف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ (الأنعام : ٦٣) و﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ (الأعراف : ٢٠٥) والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ (فاطر : ٢٨)، وقال :﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه ﴾ (الحشر : ٢١) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي ﴿هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ (المؤمنون : ٥٧) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى :﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه ﴾ (الأحزاب : ٣٣) أي تخافهم إعظاماً لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم، وقال تعالى :﴿لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ﴾ (العنكبوت : ٣٣) أي لا تخف ضعفاً فإنهم لا عظمة لهم وقال :﴿يَخَافُونَ يَوْمًا﴾ (الإنسان : ٧) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال :﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾ (فصلت : ٣٠) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم، وقال تعالى :﴿خَآاـاِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ (القصص : ٢١) وقال :﴿إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (القصص : ٣٣) لوحدته وضعفه وقال هارون :﴿إِنِّى خَشِيتُ﴾ (طه : ٩٤) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال :﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا وَكُفْرًا﴾ (الكهف : ٨٠) حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملاً لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية. الثانية : قال الله تعالى ههنا :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٤٩