المسألة الثانية : هذا يدل على أن ذلك يتوقف على الإذن، وفيه من الانتظار ما لا يليق بالإكرام، نقول ليس كذلك، فإن من دعا مكرماً إلى بستانه يفتح له الباب ويجلس في موضعه، ولا يقف على الباب من يرحبه، ويقول إذا بلغت بستاني فادخله، وإن لم يكن هناك أحد يكون قد أخل بإكرامه بخلاف من يقف على باب قوم يقولون : أدخل باسم الله، يدل على الإكرام قوله تعالى :﴿بِسَلَـامٍ ﴾ كما يقول المضيف : أدخل مصاحباً بالسلامة والسعادة والكرامة، والباء للمصاحبة في معنى الحال، أي سالمين مقرونين بالسلامة، أو معناه أدخلوها مسلماً عليكم، ويسلم الله وملائكته عليكم، ويحتمل عندي وجهاً آخر، وهو أن يكون ذلك إرشاداً للمؤمنين إلى مكارم الاْخلاق في ذلك اليوم كما أرشدوا إليها في الدنيا، حيث قال تعالى :﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى ا أَهْلِهَا ﴾ (النور : ٢٧) فكأنه تعالى قال : هذه داركم ومنزلكم، ولكن لا تتركوا حسن / عادتكم، ولا تخلوا بمكارم أخلاقكم، فادخلوها بسلام، ويصيحون سلاماً على من فيها، ويسلم ممن فيها عليهم، ويقولون السلام عليكم، ويدل عليه قوله تعالى :﴿إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا﴾ (الواقعة : ٢٦) أي يسلمون على من فيها، ويسلم من فيها عليهم، وهذا الوجه إن كان منقولاً فنعم، وإن لم يكن منقولاً فهو مناسب معقول أيده دليل منقول.
قوله تعالى :﴿ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾.
حتى لا يدخل في قلبهم أن ذلك ربما ينقطع عنهم فتبقى في قلبهم حسرته، فإن قيل المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها، فما الفائدة في التذكير ؟
والجواب : عنه من وجهين. أحدهما : أن قوله :﴿ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ قول قاله الله في الدنيا إعلاماً وإخباراً، وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله :﴿ادْخُلُوهَا﴾ فكأنه تعالى أخبرنا في يومنا أن ذلك اليوم يوم الخلود. ثانيهما : اطمئنان القلب بالقول أكثر، قال الزمخشري في قوله :﴿يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ إضمار تقديره : ذلك يوم تقدير الخلود، ويحتمل أن يقال اليوم يذكر، ويراد الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً، نقول : يوم ولد لفلان ابن يكون السرور العظيم، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً، فتريد به الزمان، فكأنه تعالى قال : ذلك زمان الإقامة الدائمة. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥٠
١٥١
وفي الآية ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال :﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الشعراء : ٩٠) ولم يقل : قرب المتقون من الجنة بياناً للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان، ثم قال لهم هذا لكم، بقوله :﴿هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ (ق : ٣٢) ثم بيّن أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله :﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـانَ﴾ (ق : ٣٣) فإن تصرف المالك الذي ملك شيئاً بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض، لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض، ثم زاد في الإكرام بقوله :﴿ادْخُلُوهَا﴾ (ق : ٣٤) كما بينا أن ذلك إكرام، لأن من فتح بابه للناس، ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين، لا يكون قد أتى بالإكرام التام، ثم قال :﴿ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ (ق : ٣٤) أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها، فهذا دخول لا خروج بعده منها.
ثم لما بيّن أنهم فيها خالدون قال : لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة، كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج، بل لكم الخلود، ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون، وإلى الله المنتهى، وعند الوصول إليه، والمثول بين يديه، فلا يوصف ما لديه، ولا يطلع أحد عليه، وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده، هذا هو الترتيب، وأما التفسير، ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال تعالى :﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ﴾ (ق : ٣٤) على سبيل المخاطبة، ثم قال :﴿لَهُم﴾ ولم يقل لكم ما الحكمة فيه ؟
الجواب : عنه من وجوه. الأول : هو أن قوله تعالى :﴿ادْخُلُوهَا﴾ مقدر فيه يقال لهم، أي يقال لهم ﴿ادْخُلُوهَا﴾ فلا يكون على هذا التفاتاً. الثاني : هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول : أكرمهم به في حضورهم، ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحور والقصور. والثالث : هو أن يقال قوله تعالى :﴿لَهُم﴾ جاز أن يكون كلاماً مع الملائكة، يقول للملائكة : توكلوا بخدمتهم، واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها، فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم، ولا تقدرون أنتم عليه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٥١
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن لفظ ﴿مَّزِيدٍ﴾ (ق : ٣٠) يحتمل أن يكون معناه الزيادة، فيكون كما في قوله تعالى :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ (يونس : ٢٦) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول، أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون :