﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا ﴾ : تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيداً، وإلاَّ فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يُرَدْ به الزكاة، هذا هو الظاهر، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا الإيتاء، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة، وهو. أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وتكرر في كل يوم وليلة، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة، فلذلك قدمت. وعطف قوله :﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا ﴾ على صلة من، وصلة من، آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي : آمن، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها، وهو رأس الأعمال الدينية، وهو المطلوب الأول. وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه، لأن ذلك من
آثر الأشياء عند العرب، ومن مناقبها الجلية، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسئين لهم، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي :
فمالى أراني وابن عمي مالكامتى أدنُ منه ينأ عني ويبعد
ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها :
يعاتبني في الدين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
ومنها :
لهم جل مالي أن تتابع لي غنىوإن قل مالي لم أكلفهم رِفداً
وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم، وفي ذلك يقول بعضهم :
إذا بعض السنين تعرَّقتنا
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الاضياف والمسافرين، كما قال زهير بن أبي سلمى :
على مكثريهم رزق من يعتريهموعند المقلين السماحة والبذل
وقال المقنع
وإني لعبد الضعف ما دام نازلاً
وقال آخر
ورب ضيفٍ طرق الحيَّ سُرىصادف زاداً وحديثاً ما أشتهى
وقال مرة بن محكان :
لا تعذليني على إتيان مكرمةناهبتها إذ رأيت الحمد منتهباً في عقر نابٍ ولا مالٌ أجود به والحمد خير لمن ينتابه عقبا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وقال إياس بن الارت :
وإني لقوّال لعافيّ : مرحباوللطالب المعروف : إنك واجدْه
وإني لما أبسط الكف بالندإذا شنجت كف البخيل وساعدُه
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عليها بذلك، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين، وإبناء السبيل على سبيل المكرمة، فَلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.
﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا ﴾ : والموفون معطوف على من آمن، وقيل : رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في إذا الموفون، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وفي مصحف عبد الله والموفين، نصباً على المدح.
وقرأ الجحدري، بعهودهم على الجمع.
﴿وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ : انتصب : والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب : والصابرون، عطفاً على : الموفون، وقال الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف، الإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من
الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً وجملة واحدة. انتهى كلامه.
قال الراغب : وإنما لم يقل : ووفى، كما قال : وأقام، لأمرين : أحدهما : اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلاَّ منها، والحكمة العقلية تقضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعاً للفضائل، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ، غيرَّ إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد. انتهى كلامه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
واتفقوا على تفسير قوله ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أنه : حالة القتال.
واختلف المفسرون في البأساء والضراء، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك.