وقال أبو حنيفة، ومحمد، وأبو يوسف، وزفر، والحسن بن صالح، وعبيد الله بن الحسن : إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت. وروي ذلك عن عبد الله، وشريح، وإبراهيم.
وقال ابن القاسم عن مالك : إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع، ومن كان في عياله، أو كان من عم وابن عم، أن يقطع نفقته عنهم إن صح، فلهم أن يرجعوا.
وقال ابن وهب عن مالك : إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا، أو في المرض فلا. وقول الليث كقول مالك، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه.
وروي عن طاووس وعطاء، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم، ولا خلاف في صحة وصية العاقل، البالغ غير المحجور عليه ؛ واختلف في الصبي، فقال أبو حنيفة : لا تجوز وصيته. قال المزني : وهو قياس قول الشافعي : وقال مالك وغيره : يجوز، والقولان عن أصحاب الشافعي. وظاهر قوله تعالى :﴿كَتَبَ﴾ المنع. لأنه ليس من أهل التكليف، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها.
واختلفوا في المدبر، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر، قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق : هو وصيته، وبه قال الشعبي، والنخعي، وابن شبرمة، والثوري، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم باع مدبراً، وأن عائشة باعت مدبرة، وإذا قال لعبده : أنت حرّ بعد موتي، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال : فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فكل هذا عندهم وصيته..
واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون ؟.
فقال أبو ثور : إذا قال : رجعت في مدبري بطل التدبير، وقال الشافعي : لا يكون إلاَّ ببيع أو هبة، وليس قوله رجعت رجوعاً. ومن قال : عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم : هو وصية وقال أشهبَّ هو مدبر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصي فلان بن فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ﴾ وأوصى من ترك، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته، وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، ويوصيهم بما أوصى به ﴿إِبْرَاهِامُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ رواه الدارقطني، عن أنس بن مالك. وبني كتب للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وللاختصار، إذ معلوم أن الله تعالى، ومرفوعُ : كتب
١٨
الظاهر أنه الوصية، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل، لا سيما هنا، إذ طال بالمجرور والشرطين، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي، وبمعنى الإيصاء. وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه، ولا يجوز أن يكون من معنى : كتب، لمضي كتب واستقبال الشرطين. ولكن يكون المعنى : كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص. ودل على هذا الجواب سياق الكلام. والمعنى : ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف، فيكون المحذوف دل على محذوف، والشرط الثاني شرط في الأول، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود، وإن كان متأخراً لفظاً. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في (كتاب التكميل) من تأليفنا، فيؤخذ منه.
وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ ويتجوز بلفظ : كتب، عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب، لأن مستقبل، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً، فيكون إذ ذاك العامل فيها : كتب، على هذا التقدير، ويكون جواب :﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ محذوفاً يدل عليه : كتب، على هذا التقدير، ولا يجوز عند جمهور النجاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً، وهو عنده المصدر، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب، وهذا الشرط موجود هنا، وإلى هذا ذهب في قوله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
أبعلى هذا بالرحى المتقاعس
فعلق : بالرحى، بلفظ : المتقاعس.