وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون : كتب، هو العامل في : إذا، والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجيه الإيجاب : بكتب، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين : إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ كما تقول : شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا : كتب، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً، ثم قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا.
ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه، قال في تفسيره : والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى : أن يوصي، ولذلك ذكر الراجع في قوله، فمن بدّ له بعدما سمعه. اهـ.
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء، على تقدير الفاء، والخبر إمّا محذوف، أي : فعليه الوصية. وإمّا منطوق به، وهو قوله :﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ﴾ أي : فالوصية للوالدين والأقربين، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم، والمفعول الذي لم يسم فاعله : بكتب، مصمر. أي : الإيصاء يفسره ما بعده.
١٩
قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد، هو العامل في إذا، وترتفع الوصية بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله :
من يفعل الحسنات الله يحفظه
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير. فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين. اهـ. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضاً، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً، في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل لي : إذا، لفظ الإيصاء بحذف، أو ضمير الإيصاء : لا، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء بحذف، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، وابن عطية قدر لفظ : الإيصاء، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين، فليس بصحيح، فإنا قد قررنا أن كل شرط يتقضى جواباً على حذفه، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
من يفعل الحسنات الله يحفظه
وهو تحريف على سيبويه، وإنما سيبويه أيده في كتابه :
من يفعل الحسنات الله يشكرهاوالشر بالشر عند الله مثلان
وأما قوله : بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال : فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
قال سيبويه : وسألته، يعنى الخليل، عن قوله : إن تأتني أنا كريم، قال : لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل : إن أنا كريم، يكون كلاماً مبتداً، والفاء، وإذا لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلهما، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطراً، وأنشد البيت السابق.
من يفعل الحسنات


الصفحة التالية
Icon