وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو : عليكم، وهو قول لا بأس به على ما تقرره، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً ؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو : المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد، فيكون هذا جواباً بالسؤال مقدر، كأنه قال : من المضروب ؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾.
﴿وَالاقْرَبِينَ﴾ جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل
٢٠
في هذا اللفظ، وأقرب ما إليه الوالدان، فصار ذلك تعميماً بعد تخصيص، فكأنهما ذكراً مرتين : توكيداً وتخصيصاً على اتصال الخير إليهما، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد، أو من عدا الأولاد، أو جميع القرابات، أو من لا يرث من الأقارب. أقوال.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي : لا يوصى بأزيد من الثلث، ولا للغنيّ دون الفقير، وقال ابن مسعود : الأخل فالأخل، أي : الأحوج فالأحوج، وقيل : الذي لا حيف فيه، وقيل : كان هذا موكولاً إلى اجتهاد الموصي، ثم بين ذلك وقدر :"بالثلث والثلث كثير". وقيل : بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله، وقيل : بالمعروف من ماله غير المجهول.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به، وإلى تمييز من يوصى له، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير، ولا يتجاوز الثلث، وتعلق بالمعروف بقوله : الوصية، أو بمحذوف، أي : كائنة بالمعروف، فيكون بالمعروف حالاً من الوصية.
﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ انتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي : حق ذلك حقاً، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله :﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ إذن يتعلق على بحقاً، أو يكون
٢١
في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة : لحقاً أي : حقاً كائناً على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذا ذاك يتخصص بالصفة، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، إمّا لمصدر من : كتب عليكم، أي : كتباً حقاً وإما مصدر من الوصية، أي أصاء حقاً، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب : بالمتقين، وأن التقدير : على المتقين حقاً، كقوله :﴿أُوالَئاِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ لأنه غير المتبادر إلى الذهن، ولتقدمه على عامله الموصول، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى : كتب، لأن معنى : كتبت الوصية، أي : وجبت وحقت، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر، كقولهم : قعدت جلوساً، وظاهر قوله : كتب وحقاً، الوجوب، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج، وقيل : من اتبعوا شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولاً وفعلاً، وخصهم بالذكر تشريفاً لهم وتنبيهاً على علو منزلة المتقين عنده، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر.
وقال بعضهم : قوله ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يدل على ندب الوصية لا على وجوبها، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون، وهم الذين اتقوا الكفر، فيحتمل أن يراد ذلك هنا..
﴿فَمَنا بَدَّلَه بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي : فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول : هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٦
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى معنى : القضيب، كأنه قال : كقضيب البانة، ومنه في العكس : جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة.


الصفحة التالية