وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها، ونحن نلخص ذلك هنا، فنقول : افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم، ثم مدح من ساحلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس من إيمانهم، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالاً من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال. فانظر إلى حسن هذا السباق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٨
﴿قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِا مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُم فَلا تَجْعَلُوا ﴾.
يا : حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها : أنادي، وعلى
٩٢
كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي : استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها : حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون : يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة. الخلق : الاختراع بلا مثال، وأصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير :
ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى قال قطرب : الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع، والإختراع، والإنشاء، متقارب. قيل : ظرف زمان، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوماً، فإذا قلت : قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد. لعل : حرف ترج في المحبوبات، وتوقع في المحذورات، ولا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال : لعل الشباب يعود، ولا تكون بمعنى كي، خلافاً لقطرب وابن كيسان، ولا استفهاماًخلافاً للكوفيين، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين، وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش : الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه. البناء : مصدر، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم. الماء : معروف، وقال بعضهم : هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه : مويه، ومياه، وأمواه. الثمرة : ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند : المقاوم المضاهى مثلاً كان أو ضداً أو خلافاً. وقال أبو عبيدة والمفضل : الند : الضد، قال ابن عطية، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر. وقال غيره : الند : الضد المبغض المناوىء من الندود، وقال المهدوي : الند : الكفؤ والمثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة. فإنه قال : الضد. قال الزمخشري : الند : المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف للمناوىء، قال جرير :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
أتيم تجعلون إلي نداوما تيم لذي حسب نديد
وناددت الرجل : خالفته ونافرته، من ند ندوداً إذا نفر. ومعنى قولهم : ليس لله ند ولا ضد، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه.


الصفحة التالية
Icon