يا أيها الناس : خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم، قاله السّدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، بعد قوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالاً من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزاً في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال : انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسرون، وهذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون.
٩٣
ولهذا لما نزل :﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ﴾ دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخص وعم، فقال :"يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقال الشاعر :
يا بني اندبوا ويا أهل بيتيوقبيلي عليّ عاماً فعاما
انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه :﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فهو مكي، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فهو مدني. أما في ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فصحيح، وأما في ﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيافي النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال : يا أيها الرجل، فتقديره : يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال : المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به ؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب، إن كان عاماً، كان قوله :﴿الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا : المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon