وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى، كبيت زهير. وقال تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾، ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾. وقال أبو عبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار : إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال. وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى :﴿هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ﴾، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه. وعطف قوله :﴿خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولاً بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون،
٩٤
والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم. وقرأ ابن السميفع : وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي :﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ بفتح ميم من، قال الزمخشري : وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله :
من النفر اللائي الذين أذاهميهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا : وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللاتي هم الذين أذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله :﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو : نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم. وهذا نظير قوله تعالى :﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وإنما ذكر ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢