﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ تقدم ذكر شيء من سبب نزول هذه الآية في قوله :﴿لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا ﴾ وقد ذكروا قصصاً مضمونها : أنّ من العرب مَن كان يتزوج امرأة أبيه، وسموا جماعة تزوجوا زوجات آبائهم بعد موت آبائهم، فأنزل الله تحريم ذلك. وتقدّم الخلاف في النكاح : أهو حقيقة في الوطء، أم في العقد، أم مشترك ؟ قالوا : ولم يأت النكاح بمعنى العقد إلا في ﴿فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ وهذا الحصر منقوض بقوله :﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾. واختلف في ما من قوله : ما نكح. فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعوله، وأنها واقعة على النوع كهي في قوله تعالى :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ أي : ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم. وقد تقرر في علم العربية أنّ ما تقع على أنواع من يعقل، وهذا على مذهب من يمنع وقوعها على آحاد من يعقل. أمّا مَن
٢٠٧
يجيز ذلك فإنه يتضح حمل ما في اةية عليه، وقد زعم أنه مذهب سيبويه. وعلى هذا المفهوم من إطلاق ما على منكوحات الآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء. قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال ابن عباس : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل، فهي عليك حرام.
وقال قوم : ما مصدرية. والتقدير : ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي : مثل نكاح آبائكم الفاسد، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، كما تقول : ضربت ضرب الأمير أي : مثل ضرب الأمير. ويبين كونه حراماً أو فاسداً قوله :﴿إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً﴾ واختار هذا القول محمد بن جرير قال : ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم، لوجب أن يكون موضع ما من. وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هنا على الوطء، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم. وقال ابن زيد في جماعة : المراد به العقد الصحيح، لا ما كان منهم بالزنا انتهى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
والاستثناء في قوله : إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى : أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دلّ على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه. فقيل : إلا ما قد سلف أي : لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه. ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح، حمل قوله : إلا ما قد سلف، على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزنا، فقال : إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، أنه كان فاحشة ومقتاً وكأنه قيل : ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم، فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم، ويكون على هذا استثناء منقطعاً. وقيل عن ابن زيد : إن معنى الآية النهي أن يطأ الرجل امرأة وطنها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة، فإنه يجوز للابن تزوجها، فعلى هذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلاً، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله : ما نكح، إذ المراد : ما وطىء آباؤكم. وما وطىء يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير : ما وطىء آباؤكم إلا التي تقدم هو أي : وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله : ما نكح مصدرية كما قررناه، قال : المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم ؟ (قلت) : كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله : ولا عيب فيهم. يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمجال في التأبيد في نحو قولهم : حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في اسم الخياط. انتهى كلامه. وقال الأخفش المعنى : تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.