وقيل : في الآية تقديم وتأخير، تقديره : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد
٢٠٨
أو ملك، لأنه ليس الإنكاح أو سفاح، والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلا﴾ أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي : بالغة في القبح. ومقت : أي يمقت الله فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. أو تمقته العرب أي : مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروآت في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجىء من زوج الوالد المقتي، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي : انَّ ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيراً بمعنى لم يزل، فالمعنى : أنَّ ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.
وقال المبرد : هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أنَّ كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار.
وساء سبيلاً هذه مبالغة في الذم، كما يبالغ ببئس. فان كان فيها ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنّه، فانها لا تجري عليها أحكام بئس. وإنْ كان الضمير فيها مبهماً كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلاً، ويكون المخصوص بالذم اذ ذاك محذوفاً التقدير : وبئس سبيلاً سبيل هذا النكاح، كما جاء بئس الشراب أي : ذلك الماء الذي كالمهل. وبالغ في ذم هذه السبيل، إذ هي سبيل موصلة إلى عذاب الله. وقال البراء بن عازب : لقيت خالي ومعه الراية فقلت : أين تريد ؟ قال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ان أضرب عنقه.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ وَبَنَـاتُكُمْ﴾ لما تقدم تحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه، كان تحريم أمه أولى بالتحريم. وليس هذا من المجمل، بل هذا مما حذف منه المضاف الدلالة المعنى عليه. لأنه إذا قيل : حرم عليك الخمر، إنما يفهم منه شربها. وحرمت عليك الميتة أي : أكلها. وهذا من هذا القبيل، فالمعنى : نكاح أمهاتكم. ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله :﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾.
وقال محمد بن عمر الرازي : فيها عندي بحث من وجوه : أحدها : أنَّ بناء الفعل للمفعول لا تصريح فيه بأن المحرّم هو الله. وثانيها : أنّ حرمت لا يدل على التأبيد، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت. وثالثها : أنّ عليكم خطاب مشافهة، فيختصّ بالحاضرين. ورابعها : أنّ حرمت ماض، فلا يتناول الحال والمستقبل. وخامسها : أنه يقتضي أنه يحرم على كل أحد جميع أمهاتهم. وسادسها : أنَّ حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان حراماً لما قيل : حرمت. وثبت بهذه الوجوه أنّ ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢