وهذه البحوث التي ذكرها لا تختص بهذا الموضع ولا طائل فيها، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به، ومعلوم أنّ المحرّم هو الله تعالى. ألا ترى إلى آخر الآية وهو قوله :﴿وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ وقال بعد :﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ﴾ على قراءة من بناه للفاعل. ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهم منه إلا التأبيد، فإن كان له حالة إباحة نصّ عليها كقوله :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ وأما أنه صيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه، فإنها نظير أقسمت لأضربن زيداً لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض. فإن كان الحكم ثابتاً قبل ورود الفعل ففائدته تقرير ذلك الحكم الثابت، وإن لم كن ثابتاً ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده. وأمّا أن الظاهر أنه يحرم على كلّ أحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر، ولا مفهوم من اللفظ. لأنّ عليكم أمهاتكم عام يقابله عام، ومدلول العموم أن تقابل كل واحد بكلّ واحد واحد. أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا، لأنها ليست دلالة العام.
٢٠٩
فإنما المفهوم : حرم على كل واحد واحد منكم كلّ واحدة، واحدة من أم نفسه. والمعنى : حرم على هذا أمة. وعلى هذا أمّة والأمّ المحرّمة شرعاً هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك. ولفظ الأم حقيقة في التي ولدتك نفسه. ودلالة لفظ الأم على الجدّة إن كان بالتواطىء أو بالاشتراك، وجاز حمله على المشتركين، كان حقيقة، وتناولها النص. وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز، فكذلك وإلا فيستفاد تحريم الجدّات من الإجماع أو من نصّ آخر.
وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، وذكروا أنّ سبب هذا التحريم : أنّ الوطء إذلال وامتهان، فصينت الأمهات عنه، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام.
والبنت المحرّمة كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور، وبنت البنت هل تسمى بنتاً حقيقة، أو مجاز الكلام فيها كالكلام في الجدة، وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس، ذكر ذلك : النضر بن شميل في كتاب المثالب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن.
﴿وَعَمَّـاتُكُمْ وَخَـالَـاتُكُمْ﴾ العمة : أخت الأب، والخالة : أخت الأم. وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحرم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها، وعمة العمة. وأم خالة العمة فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم، فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة. وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط، فخالتها أجنبية من بني أخيها تحلّ للرجال، ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة، لأنها أخت جد. وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها.
﴿وَبَنَاتُ الاخِ وَبَنَاتُ الاخْتِ﴾ تحرم بناتهما وإن سفلن. وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعاً، لأنه أضيف إليه الجمع، فكان لفظ الإفراد أخف، وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره. فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد. وأما اللواتي صرن محرمات بسبب طارىء فذكرهن في القرآن سبعاً وهن في قوله تعالى :
﴿وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ وسمى المرضعات أمهات لأجل الحرمة، كما سمى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين. ولما سمى المرضعة أماً والمرضعة مع الراضع أختاً، نبّه بذلك على إجراء الرضاع مجرى النسب. وذلك لأنه حرم بسبب النسب سبع : اثنتان هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما : الأم والبنت. وخمس بطريق الأخوة وهن : الأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت. ولما ذكر
٢١٠
الرضاع ذكر من كل قسم من هذين القسمين صورة تنبيهاً على الباقي، فذكر من قسم قرابة الأولاد الأمهات، ومن قسم قرابة الأخوة والأخوات، ونبه بهذين المثالين على أنّ الحال في باب الرضاع كالحال في باب النسب. ثم إنه صلى الله عليه وسلّم أكد هذا بصريح قوله :"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فصار صريح الحديث مطابقاً لما أشارت إليه الآية. فزوج المرضعة أبوه، وأبواه جداه، وأخته عمته. وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهو أخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته. وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخوانه لأبيه وأمه. وأما ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢