وقال الزمخشري :(فإن قلت) : علام عطف قوله : وأحل لكم ؟ (قلت) : على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله : أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني : كتب الله عليكم، وأحل لكم. ثم قال : ومن قرأ ﴿وَأُحِلَّ لَكُم﴾ على البناء للمفعول، فقد عطفه على : حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت، فالعامل فيه وهو كتب، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذا حداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل، ومفعول أحلّ هو : ما وراء ذلكم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات، فهو وراء أولئك بهذا الوجه. وقال الفراء : ما وراء ذلكم أي : ما سوى ذلكم. وقال الزجاج : ما دون ذلكم، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.
وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري : أن تبتغوا مفعول له، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم،
٢١٦
إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دساً خفياً إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل. وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم. وفسر الأموال بعد بالمهور، وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح. وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري. إذ الظاهر أنه تعالى أحلّ لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان، لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب : أن تبتغوا مفعولاً له، كما ذهب إليه الزمخشري، لأنه فات شرط من شروط المفعول له، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له. لأن الفاعل بقوله : وأحل، هو الله تعالى. والفاعل في : أن تبتغوا، هو ضمير المخاطبين، فقد اختلفا. ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله : وأحلّ، وفي المفعول له، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله : ما وراء ذلكم، وتقديره : أن تبتغوه.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : أين مفعول تبتغوا ؟ (قلت) : يجوز أن يكون مقدراً وهو. النساء، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره : إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول. وأما قوله : وأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم، فهو مخالف للظاهر، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح، كما هو في تخرجوا، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢