والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة. وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم، أي : يريد أن يبين، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. وقوله تعالى : ويهديكم، قال المفسرون : معناهما واحد، والتكرار لأجل التأكيد، وهذا ضعيف. والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف، ثم قال : ويهديكم. وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم كذلك أيضاً في جميع الشرائع، وإن كانت مختلفة في نفسها، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها. وقوله : أي يريد أن يبين، موافق لقول الزمخشري.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يردكم من عصيانه إلى طاعته، ويوفقكم لها.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا﴾ تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله : ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله : والله يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله : ويتوب عليكم، لأن قوله : ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية : وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله : ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولاً ليريد، وعطف عليه : ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال : وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه : أنَّ مفعول : يريد، محذوف، والتقدير : يريد الله هذا التبيين.
والشهوات جمع شهوة، وهي ما يغلب على
٢٢٦
النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى :﴿فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِا فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ واتباع الشهوة في كل حال مذموم، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله : السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب، ونكاح بنات الأخ، وبنات الأخت، فلما حرّمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء، فبعضها أسهل من بعض، فوصف مثل هؤلاء بالعظم، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى :﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢