وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء : بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور : ميلاً بسكون الياء. وقرأ الحسن : بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله : ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف، قال : تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى، وتأخيره في الجملة الثانية، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل، ولأنّ المضارع باشرته الواو، وذلك لا يجوز، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ﴾ لم يذكر متعلق التخفيف، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص. الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز. الثالث : في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة. الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف. الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم.
وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله : والله يريد أن يتوب عليكم، والعامل في الحال يريد، التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم، وهذا الإعراب ضعيف، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل، وهي جملة أجنبية من العامل والحال، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمراً.
٢٢٧
والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر. أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة، فلا موضع لها من الإعراب. أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا، كما جاء ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا﴾ قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء. قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء. وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.
قال الزمخشري : ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق الطاعات. قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف الله بإباحة الإماء، يخرج الآية مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب. قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو :﴿أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاهَا﴾ أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾ فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى، فهو أقوى ما في هذا العالم. ولهذا قال تعالى :﴿وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾. وقال الحسن : ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين. قال الله تعالى : الذي خلقكم من ضعف.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢


الصفحة التالية
Icon