وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك، كما جاء في الحديث. قال ابن عباس : بالسواك ونحوه. والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً، ولا يتلف عضواً، ولا يعقب شيئاً، والناهك البالغ، وليجتنب الوجه. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم :"علق سوطك حيث يراه أهلك" وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. وهذا يخالف قول ابن عباس، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى، ثم ضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرّة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي الضرب، فكان الضرب بها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة.
وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ، ويهجر في المضجع، ويضرب التي يخاف نشوزها. ويجمع بينها، ويبدأ بما شاء، لأن الواو لا ترتب. وقال بهذا قوم وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز، والضرب عند ظهوره. وقال ابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولاً، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ، فإن لم يفد فبخشنه، ثم يترك مضاجعتها، ثم بالإعراض عنها كلية، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل، وأكرهها على الوطء، لأن ذلك حقه. وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله :.
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا ﴾ انتهى. وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم. يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز، وأن النشوز منهن كان واقعاً، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز. وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن. والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهم المعنى واقتضائه له، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن. كما حذف في قوله :﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَا فَانابَجَسَتْ﴾ تقديره فضرب فانفجرت، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر، إنما هو متسبب عن الضرب. فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به. والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبل الثلاثة المباحة وهي : الوعظ، والهجر، والضرب. وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة، فإن ذلك إلى الله. وقيل : يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصاب سبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها. ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى. وسبيلاً نكرة في سياق النفي، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة،
٢٤٢
ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلوا عليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد. أو يكون المعنى : إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم يتوب عليكم، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِا وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ الخلاف في الخوف هنا مثله في : واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية، وإمّا النشوز. وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية، وإمّا النشوز المستمر، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً. وإن استمر النشوز واشتدّ، بعث الحكمان.
والشقاق : المشاقة. والأصل شقاقاً بينهما، فاتسع وأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول : يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.


الصفحة التالية
Icon