والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة، وتارة بنفسه. حكى سيبويه : مسحت رأسه وبرأسه، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد. وظاهر مسح الوجه التعميم، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه. وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون. وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما، وهي تنطلق لغة إلى المناكب، وبه قال ابن شهاب، قال : يمسح إلى الآباط، وروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي سنن أبي داود :"أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه" قال ابن عطية : لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث : أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضاً واجباً، وهو قول : جابر، وابن عمر، والحسن، وابراهيم. وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، وهو : قول علي، وعطاء، والشعبي، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود بن علي، والطبري، والشافعي في القديم، وروي عن مالك. وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث. ففي مسلم من حديث عمار "إنما كان يكفيك أن يضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك" وعنه في هذا الحديث :"وضرب بيده الأرض فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه" وللبخاري :"أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه" وفي مسلم أيضاً :"أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" وعند أبي داود "فضرب بيده الأرض فقبضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه". فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٥٠
وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وهو قول : عطاء والشعبي في رواية، والأوزاعي في الأشهر عنه، وأحمد وإسحاق وداود والطبري. وذهب مالك في المدوّنة، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، والثوري، والليث، وابن أبي سلمة : إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ولم يذكر في هذه السورة منه، وذكر ذلك في المائدة، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ولذلك قال الزمخشري :(فإن قلت) : فما تصنع بقوله في سورة المائدة :﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه ؟ (قلت) : قالوا : إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت) : قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض (قلت) : هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ كناية عن الترخيص والتيسير، لأن مَن كانت عاته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أِّن يكون ميسراً غير معسر انتهى كلامه. والعجب منه إذ أذعن إلى الحق، وليس من عادته، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه. وأيضاً فكلامه أخيراً حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٥٠
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ قال قتادة : نزلت في اليهود. وفي رواية عن ابن عباس : في رفاعة بن زيد بن التابوت. وقيل : في غيره من اليهود. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال
٢٦٠
الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين، وكيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي يأتي شهيداً عليهم وعلى غيرهم. ولما كان اليهود أشد إنكاراً للحق، وأبعد من قبول الخير. وكان قد تقدّم أيضاً الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون، وهم أشد الناس تحلياً بهذين الوصفين، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ﴾ فأغنى عن إعادته..