﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ : تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد، وعلى مذهب البصريين نوجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام، وهنا وأهلها مصلحون. قال الطبري : بشرك منهم وهم مصلحون أي : مصلحون في أعمالهم وسيرهم، وعدل بعضهم في بعض أي : أنه لا بد من معصيتة تقترن بكفرهم، قاله الطبري ناقلاً. قال ابن عطية : وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال : إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجهاً أي : ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان. والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك. وقال الزمخشري : وأهلها مصلحون تنزيهاً لذاته عن الظلم، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى. وهو مصادم للحديث :"أنهلك وفينا الصالحون" قال : نعم، "إذا كثر الخبث" وللآية :﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً﴾.
٢٧٢
﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةًا وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَا وَلِذَالِكَ خَلَقَهُم وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٢
قال الزمخشري : يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي مبلة الإسلام كقوله :﴿إِنَّ هَـاذِهِا أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختبار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك الا ناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة : أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر، لكنه تعالى لم يشأ ذلك. وقال الضحاك : لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة، والظاهر أن قوله : ولا يزالون مختلفين، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق، وأنّ المعنى في الحق والباطل قاله : ابن عباس، وقال مجاهد : في الأديان، وقال الحسن : في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض، وقال عكرمة : في الأهواء، وقال ابن بحر : المراد أنْ بعضهم يخلف بعضاً، فيكون الآتي خلفاً للماضي. قال : ومنه قولهم : ما اختلف الجديدان، أي خلف أحدهما صاحبه. وإلاّ من رحم استثناء متصل من قوله : ولا يزالون مختلفين، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن، فيكون استثناء منقطعاً كما ذهب إليه الحوفي، والإشارة بقوله : ولذلك خلقهم، إلى المصدر المفهوم من قوله : مختلفين، كما قال : إذا نهى السفيه جرى إليه. فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قيل : وللاختلاف خلقهم، ويكون على حذف مضاف أي : لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم. ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقاً للسعادة، وخلقا للشقاوة، ثم يسر كلا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٢
وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. ولا يتعارض هذا مع قوله :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ لأنّ معنى هذا الأمر بالعبادة. وقال مجاهد وقتادة : ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله : إلا من رحم ربك، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين. وقال ابن عباس، واختاره الطبري : الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معاً، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله :﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ﴾ أي بين الفارض والبكر، والضمير في خلقهم عائد على الصنفين : المستثني، والمستثنى منه، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء، أو الرحمة كما قال مجاهد، وقتادة، أو كلاهما كما قال ابن عباس. وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث، فروي أنه إشارة إلى ما عده. وفيه تقديم وتأخير أي : ونمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم أي لملء جهنم منهم، وهذا بعيد جداً من تراكيب كلام العرب. وقيل : إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود، وقيل : إلى قوله :﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ﴾ وقيل : إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل : إشارة إلى قوله :﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الارْضِ﴾ وقيل : إشارة إلى العبادة، وقيل :
٢٧٣


الصفحة التالية
Icon