فأنث على المعنى. وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي، فتقول الرّوح : أنت كسبت وعصيت لا أنا، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره، فالعذاب عليكما. وعن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة، كانت لا تغزي ولا يغار عليها، والأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلّم فكفرت، فأصابها السنون والخوف. وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها. وهذا وإن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب. ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين. وعن حفصة : أنها المدينة. وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة. وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى. ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن، لأنه لا يقيم لخائف. والاطمئنان زيادة في الأمن، فلا يزعجها خوف. يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها، لا يتعذر منها جهة. وأنعم جمع نعمة، كشدّة وأشد. وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى. فيكون كبؤس
٥٤٢
وأبؤس. وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء، جمع نعمة على ترك التاء، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن، والصحة، والكفاية. قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن، مطمئنة إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لا مزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام :﴿فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وقال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة، ولم يأت بنعم الله، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه. قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
إذا ما الضجيجع ثنى جيدهاتثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى :﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ ومنه قول الشاعر :
وقد لبست بعد الزبير مجاشعثياب التي حاضت ولم تغسل الدما كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه. وقوله : فأذاقها الله، نظير قوله :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فاحس وذق
وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها ؟ (قلت) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع. وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير :
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاغلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه، صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله :
ينازعني ردائي عبد عمرورويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يمينيودونك فاعتجر منه بشطر
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨