المسألة الثانية احتج ابن قتيبة بهذه الآية على أن السمع أفضل من البصر فقال إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن فقال كلما ذكر الله السمع والبصر فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى فأحدها أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى
الحجة الثانية أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل
الحجة الثالثة أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ولا يتوقف على قوة البصر فكان السمع أفضل من البصر
الحجة الرابعة أنه تعالى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ والمراد من القلب ههنا العقل فجعل السمع قريناً للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك ١٠ ) فجلوا السمع سبباً للخلاص من عذاب السعير
الحجة الخامسة أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر
الحجة السادسة أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر ومن الناس من قال البصر أفضل من السمع ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار
الحجة الثانية أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة