إليها بأعيانها مرة أخرى فهذا هو تقرير الشبهة
والجواب عنها أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته أما إذا سلما كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادراً على كل الممكنات كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية
أما قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً مثل أن تصير حجارة أو حديداً فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حياً عاقلاً كما كان والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلاً لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي وقادر على كل الممكنات وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواء صارت عظاماً ورفاتاً أو صارت شيئاً أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديداً فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع وقوله كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل للرجل أتطمع في وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي
فإن قيل ما المراد بقوله أَوْ خَلْقًا
قلنا المراد أن كون الحجر والحديد قابلاً للحياة أمر مستبعد فقيل لهم فافرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلاً للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء وقال ابن عباس المراد منه الموت يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة أما في نفس الأمر فهذا محال لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضاً ثم بتقدير أن ينقلب عرضاً فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر وقال مجاهد يعني السماء والأرض
ثم قال فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمعنى أنه لما قال لهم كونوا حجارة أو


الصفحة التالية
Icon