قوله :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾.
يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطيةً، وأن تكون موصولةً، كما تقدَّم في نظايرها، و « فِيهنَّ » متعلِّقٌ ب « فَرَضَ ». والضَّمير في « فِيهِنَّ » يعود على « أَشْهُر » وجيء به كضمير الإناث، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء « فِيهِنَّ » دون « فِيهَا »، وهذا بخلاف قوله :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] لأنه هناك جمع كثرة.
وفرض في اللُّغة : ألزم وأوجب، يقال فرضت عليك كذا، أي : أوجبته، وأصل الفرض في اللغة : التَأثير والحزُّ والقطع.
قال ابن الأعرابي - رحمه الله تعالى - : الفرض الحزُّ في القدح، [ وفي الوتد، وفي غيره ]، وفرضة القوس : الحزُّ الذي فيه الوتر، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح، ففرض ها هنا - بمعنى : أوجب، وقد جاء في القرآن « فَرَضَ » بمعنى أبان؛ قال تعالى :﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ [ النور : ١ ] بالتخفيف، وقوله :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ]. راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً، فقد أبانه من غيره، والله تعالى إذا فرض شيئاً، أبانه عن غيره، ففرض بمعنى : أوجب : وفرض : بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب، فقالوا :
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع، وسمَّاه بالركن.
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي، وجعل الفرض لا يسامح به، عمداً ولا سهواً، وليس له جابر، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « فَرَضَ » في القرآن خمسة معان : الأول : فرض بمعنى أوجب، كهذه الآية الكريمة، ومثله :﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] أي أوجبتم.
الثاني : فرض بمعنى بيَّن، قال تعالى :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ] ومثله ﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ [ النور : ١ ].
الثالث : فرض : بمعنى أنزل؛ قال تعالى :﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ ﴾ [ القصص : ٨٥ ] أي : أنزل.
امس : الفرض : الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى :﴿ فَرِيضَةً مِّنَ الله ﴾ [ النساء : ١١ ].
فصل
قوله :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ﴾ يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً، واختلفوا في ذلك الفعل.
فقال الشَّافعيُّ، وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النِّية، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية.
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي.
وقال القفَّال في تفسيره : ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده، فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلَّد أو أشعر، فقد أحرم، وعن ابن عباسٍ : إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ، فقد أحرم.