والثاني : قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين، يترتَّب الخلاف فى قوله :« فِي الحَجِّ »، فعلى مذهب سيبويه : يكون فى موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش : يكون فى موضع خبر « لا »، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب.
وأمَّا من رفع الأولين، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدَّم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ : وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون « لا » وما بني معها في موضع المبتدأ، على مذهب الأخفش، فلا يجوز أن يكون « في الحجِّ » إلا خبراً للمبتدأين، أو خبراً ل « لاَ ». لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له، ولا يطلبه خبراً لها.
وإنَّما قرئ كذلك، قال الزمخشري :« لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي، كأنه قيلَ : فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ، كأنه قِيلَ : ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ »، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام :« مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ... » وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ، أي شيء يخرج من الحجِّ، ثم ابتدأ النفي فقال :« ولا جدال »، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً، بل تركهما على النَّفي الحقيقي.
فمن ثم، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة، قد يراد بها النهي أيضاً، وقيل ذلك فى قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٢ ]. والذي يظهر فى الجواب عن ذلك، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال :« وقيل : الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ ». قال شهاب الدِّين. وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين، فإنهم يقولون :« لا » العاملة عمل « لَيْسَ » لنفي الوحدة، والعاملة عمل « إنَّ » لنفي الجنس، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها، بل رجلان، أو رجالٌ؛ إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها.


الصفحة التالية
Icon