« أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ ».
قال مجاهدٌ : معناه : لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ.
قال أهلُ المعاني : ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ، أي لا ترفُثُوا، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ البقرة : ٣ ] أي : لا ترتابُوا.
قال القاضي : قوله تعالى :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ يحتملُ أن يكونَ خبراً، وأنْ يكونَ نَهْياً، كقوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾، أي : لا تَرْتَابُوا فيه، وظاهرُ اللفظِ للخبر، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ، الجماعُ [ المفسِدُ للحج، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً، فلا يَصِحَّ معه الحج، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج.
فصل
قال ابنُ العَرَبيِّ : المرادُ بقوله :« فَلاَ رَفَثَ » نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً، فإِنَّا نَجِدُ الرفثَ فيه حِسَاً، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] أي : مشروعاً لا حسّاً، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ [ الواقعة : ٧٩ ] إذا قلنا : إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً، فإن وجد المَسُّ، فعلى خلاف حُكْم الشرع، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا : إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً، ومُتَضَادان وَصْفاً.
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه، وقولُ الفُحْشِ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها.