﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] قال : نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا ﴾ قال : نعم ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قال : نعم ﴿ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين ﴾ قال : نعم أخرجهُ مسلمٌ، عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه -

فصلٌ


معنى قوله :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى -، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
وقوله :﴿ والمؤمنون ﴾ فيه احتمالان :
أحدهما : أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - ﴿ والمؤمنون ﴾، فيكُونُ المعنى : آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم، ثم ابتدأ [ بعد ] ذلك بقوله :﴿ كُلٌّ آمَنَ بالله ﴾ والمعنى : كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله.
والاحتمال الثَّاني : أن يتمَّ الكلامُ عند قوله :﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ ثم يَبْتَدِىءُ ﴿ المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله ﴾ ويكون المعنى : أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ.
وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال ﴿ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب ﴾ [ مريم : ٣٠ ] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال : إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [ مَا ] خُلِقَ كامل العقلِ.

فصلٌ


دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - ﷺ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
قوله تعالى :﴿ والمؤمنون ﴾ : يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على « الرَّسُول » - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - :« وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ »، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله :« كُلٌّ آمَنَ » جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.


الصفحة التالية
Icon