قال شهاب الدين : وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال : وقِيلَ إنَّ « أَحَداً » بمعنى « جميع »، والتقدير :« بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ » ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرّقون بين كلِّ الرسل، بل البعض، وهو محمَّد - ﷺ -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية : لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله، وبين غيره في النبوَّة.
فصل
قال شهاب الدين : وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنَّ القائلين بكون « أَحَد » بمعنى « جميع »، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة « بَيْنَ » إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ [ الحاقة : ٤٧ ]، وبقوله :[ الرجز ]
١٣٠٤- إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا | لاَ يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا |
وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير :« لاَ نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وبَيْنَ أَحَدٍ » وعلى هذا : فأحد هنا ليس الملازم للجحد، ولا همزته أصليةٌ، بل هو « أَحَد » الذي بمعنى واحد، وهمزته بدلٌ من الواو، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً، نحو :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي : والبرد، وقوله :[ الطويل ]
١٣٠٥- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً | أَبُو حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ |
و « مِنْ رُسُلِهِ » في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل « أَحَد »، و « قَالُوا » عطفٌ على « آمَنَ »، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى « كُلّ ».
فصل
قال الواحديُّ - رحمه الله - : قوله :« سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » أي : سمعنا قوله، وأطعنا أمره، إلاَّ أنه حذف المفعول.
قال ابن الخطيب : وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير : سمعنا قوله وأطعنا أمره، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلاَّ قوله، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلاَّ أمره، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى.
فصل
لما وصفهم بقوله :« سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا »، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد : عقلناه وعلمنا صحَّته، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إلينا، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾