وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ و الحوفيّ، فقال :« والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ، وإلى تأويل » سواء « بمعنى استواء ».
والأشهر استعمال « سَوَاء » بمعنى اسم الفاعل - أي : مُسْتوٍ.
قال شهاب الدين :« وبذلك فسَّرها ابن عباس، فقال : إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ ».
قوله :﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله ﴾ فيه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه بدل من « كَلِمةٍ » - بدل كل من كل.
الثاني : بدل من « سَوَاء » جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى، وعلى الوجهين ف « أنْ » وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ.
الثالث : أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ، والجملة استئناف، جواب لسؤال مقدَّر، كأنه لما قيل :﴿ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ ﴾ قال قائل : ما هي؟ فقيل : هي أن لا نعبد إلا الله، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف « بَيْنَ » منصوب ب « سَوَاءٍ » ظرفاً له، أي : يقع الاستواء في هذه الجهة.
وقد صرَّح بذلك [ الشاعر ]، حيث قال :[ الوافر ]
١٤٩٩- أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا | يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ |
الرابع : أن يكون « أنْ » وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ : الظرفُ قبله.
الخامس : جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ.
وحينئذ يكون الوقف على « سَوَاءٍ » ثم يبتدأ بقوله :﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله ﴾ وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل « كَلِمةٍ »، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف، وتقدير العائد ليس بالسهل.
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء : وقيل : تم الكلامُ على « سَوَاءٍ »، ثم استأنف، فقال :﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ ﴾، أي : بيننا وبينكم التوحيد، فعلى هذا يكون ﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ ﴾ مبتدأ، والظرف خبره، والجملة صفة ل « الكلمة »، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على « سَوَاءٍ » ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم.
السادس : أن يكون :﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ ﴾ مرفوعاً بالفاعلية ب « سَوَاءٍ »، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى :
قال أبو حيّان :« إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف ».
فصل
لما أوْرَد ﷺ على نصارى نجران أنواعَ الدلائل، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا، وما شرعوا فيها، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية، وكان ﷺ حريصاً على إيمانهم، فكأنه - تعالى - قال : يا محمدُ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام، واعدل [ إلى ] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم، وطبع مستقيم أنه [ متين ] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال « قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ » فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه، وهي :﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ فهذا وَجْهُ النَّظم.