﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة ﴾ [ عبس : ٣٨-٤٢ ].
وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾، فذكرهما منكرين، وذلك لا يفيد العموم، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين :
الأول : أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي ﷺ فيدخل الكل فيه.
الثاني : أنه قال :﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾، فجعل موجب العذاب هو الكفر، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا.
قال الزمخشري : هم المنافقون، آمنوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
وقال عكرمة : هم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد ﷺ قبل أن يُبْعَث، فلما بُعِثَ كفروا به.
قوله :﴿ أكَفَرْتُمْ ﴾ هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب « أما »، وحذف الفاء مع القول مطرد، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً، كقوله تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ].
وقوله :﴿ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ ﴾ [ الزمر : ٣ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ]، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة.
كقوله :[ الطويل ]
١٥٦٤- فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ | وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ |
وقال صاحب « أسرار التنزيل » : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم : لما حذف يقال : حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ ﴾ [ الجاثية : ٣١ ]، فحذف يقال، ولم يحذف الفاء، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله :﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾، فوقع ذلك جواباً له، ولقوله :﴿ أَكَفَرْتُم ﴾ ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً، ثم يجعلون له جواباً واحداً، كما في قوله :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٣٨ ]، فقوله :﴿ فلا خوف عليهم ﴾ جواب للشرطين معاً، وليس « أفلم تكن آياتي » جواب « إما » بل الفاء عاطفة على مقدَّر، والتقدير : أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي؟
قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ، أما قوله : قد اعترض على النحاة، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار : فيُقال لهم : أكفرتم، وقالوا : هذا هو فَحْوَى الخطابِ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه.