وقول هذا الرجل : فوعق ذلك جواباً له ولقوله :« أكفرتم » يعني : أن « فذوقوا العذاب » جواب ل « أما » ولقوله :« أكفرتم » والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.
وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً.
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ [ البقرة : ٣٨ ] وزعمه أن قوله تعالى :﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ البقرة : ٣٨ ]. انتهى.
والهمزة في « أكَفَرْتُمْ » للإنكار عليهم، والتوبيخ لهم، والتعجُّب من حالهم.
وفي قوله :« أكَفَرْتُمْ » نوع من الالتفات، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب، وذلك أن قوله :﴿ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ ﴾ في حكم الغيبة، وقوله - بعد ذلك « أكَفَرْتُمْ » خطاب مواجهة.
قوله :﴿ فَذُوقُوا ﴾ من باب الاستعارة، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق.
وقوله :﴿ بِمَا كُنْتُمْ ﴾ الباء سببية، و « ما » مصدرية، ولا تكون بمعنى : الذي؛ لاحتياجها إلى العائد، وتقديره غير جائز، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه.
فإن قيل : إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان.
فالجواب : أن الواو للجمع لا للترتيب، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة، لا ابتداء العذاب، فابتدأ بذكر أهل الثواب، لأنهم أشرف، ثم ختم بذكرهم، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب، كما قال :﴿ سبقت رحمتي غضبي ﴾، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب، وختم بذكرهم. قوله :﴿ وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
قال ابنُ عباس : هي الجنة.
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل، والترك سواء، يمتنع منه الفعل، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة، لم تحصل منه الطاعة، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته، وبكرمه، لا باستحقاقنا.


الصفحة التالية
Icon